التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فتح مكة

فتح مكة 

المسلمين قبل الفتح :

كانت البداية الحقيقية لفتح مكة، بعد “غزوة الخندق” في السنة الخامسة من الهجرة، عندما اعلن النبي صل الله عليه وسلم عبارته الشهيرة “الآن نغزوهم ولا يغزوننا”.

فبعد هذه الغزوة تفكك التحالف الذي قام بين اليهود ومشركي مكة، وكشفت أحداث الخندق استحالة قيام مثل هذا التحالف مرة أخرى؛ وبالتالي أمن المسلمون المقاتلة على جبهتين في وقت واحد.
وكانت الرؤية النبوية ذات بعد إستراتيجي في تحليل الموقف السياسي والعسكري إذ أثبتت الأحداث وتطوراتها أن رقعة الإسلام أخذت تزداد مقابل انحسار القوتين الضاربتين: اليهود والمشركين؛ حيث لم يبق لليهود تجمعات إلا في خيبر الحصينة، ولم يبق للمشركين مكان إلا في مكة وبعض القبائل والتجمعات الصغيرة التي يكفيها بعض السرايا الصغيرة لتأديبها والقضاء على خطرها.

سبب فتح مكة :

كان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ينظم العلاقة بين المسلمين والمشركين لمدة عشر سنوات، وكان من بنوده المهمة أنه “من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخله” فدخلت قبيلة “خزاعة” في تحالف مع المسلمين، ودخلت قبيلة “بكر” في تحالف مع قريش.

نقض صلح الحديبية :

بعد ان غدرت قريش ونقضت الصلح حيث أغارت قبيلة بكر على خزاعة، وأمدت قريش حليفتها “بكر” بالمال والسلاح، وقتلوا أكثر من عشرين من خزاعة حليفة المسلمين، واعتدوا عليهم رغم لجوئهم إلى الحرم. وأمام هذا النقض الصريح للعهد ركب “عمرو بن سالم الخزاعي” في أربعين من قومه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه النصرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “نُصرت يا عمرو بن سالم”، وأمر المسلمين بالخروج لمناصرة خزاعة.
أدركت قريش أنها ارتكبت خطأ إستراتيجيا كبيرا بما أقدمت عليه من تقديم المال والسلاح لقبيلة بكر، وحاولت أن تعالج هذا الخطأ؛ حيث انطلق زعيمها وأكبر ساستها “أبو سفيان بن حرب” إلى المدينة المنورة طلبا في العفو عن هذا الخطأ الفادح، وتجديدا للهدنة، واستشفع بكبار المسلمين مثل أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة، لكن علي بن ابي طالب لخص الموقف بقوله لأبي سفيان: “ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه”؛ فعاد أبو سفيان صفر اليدين إلى قريش واتهم بأن المسلمين لعبوا به.

خطة النبي لفتح مكة :

وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم خُطة محكمة لفتح مكة، عملًا بقول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الأنفال 

وقد أمر المسلمين بالتجهز، وأمر أهله بتجهيزه، وحرص النبي على إخفاء الأمر عن أهل مكة حتى يباغتهم، حتى أن السيدة عائشة أخفت عن والدها ليعلم بأمر الغزوة من النبي نفسه

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، صائمًا، وصام المسلمون معه، حتى إذا كان بالكديد (موضع بقرب مكة)، دعا بماء في قعب وهو على راحلته فشرب والناس ينظرون، يعلمهم أنه قد أفطر ليتبعوه قائلًا: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا» رواه مسلم 

خطيئة حاطب بن ابي بلتعة:

لما أجمع صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه رسالة يخبر قومه في قريش ويحذرهم، ثم أعطاه لجارية عند بني عبدالمطلب تدعى "سارة"، فوضعتها في ضفيرتها، وقيل أن نص الرسالة كان: "يا معشر قريش فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل. فو الله لو جاءكم واحده لنصره الله، وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام"

ولكن الله قد أوحى لنبيه بما صنع حاطب، فبعث في طلب الرسالة عليًا والزبير مخبرًا:
«انطلقوا حتى تأتوا (روضة خاخ) فإن بها ظعينة (مسافرة) معها كتاب فخذوه منها».

كان موقف حاطب مشينًا؛ وطلب عمر بن الخطاب أن يضرب عنقه باعتباره منافقًا؛ وقد استعطف حاطب بن بلتعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلا أنه لم يفعل ما فعل كفرا بالله ورسوله، ولكن حماية لذوي قربته من بطش قريش!


لكن عفو النبي يتسع ليشمل خطايا أصحاب الفضل قديمًا؛ فيقول:« ما يُدريكَ لعَلَّ اللهَ أن يَكونَ قدِ اطَّلعَ عَلى أَهلِ بَدرٍ فَقال: اعْمَلوا ما شِئتُم فَقد غَفَرتُ لَكُم»

وجاء أن ذلك سبب نزول قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}


إسلام ابوسفيان :


ولم يستطع زعيم قريش أبو سفيان السكون طويلا على هذا الوضع المقلق الذي خلقه نقض قومه لعهدهم مع المسلمين؛ فخرج يتحسس الأخبار ففوجئ بجيش المسلمين الضخم عند مكان يسمى “ثنية العقاب” قرب مكة، فأسرته قوة من استطلاعات المسلمين، وهمّ عمر بن الخطاب أن يضرب عنقه، إلا أن العباس أجار أبا سفيان وأركبه خلفه على بغلته ليدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسون العفو.

وفي فتح مكة رفض النبي صلى الله عليه وسلم استقبال أبي سفيان في بداية الأمر، فقال أبو سفيان: “والله ليأذنن، أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشا أو جوعا”، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رق له، ورحم عزيز قوم أصابته تقلبات الدهر، وأذن له بالدخول، ولما رآه قال له: “ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألا إله إلا الله؟”.

فتحت هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم قلب أبي سفيان للإسلام، وقال: “بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا”، فقال له العباس: “ويحك! أسلم واشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قبل أن تُضرب عنقك” فأسلم أبو سفيان. ويكشف هذا الموقف عن روعة تقاسم الأدوار بين المسلمين لهداية الناس إلى الله تعالى، فإن الأقفال المغلقة للقلوب تحتاج إلى مفاتيح مختلفة تمزج بين الشدة واللين، وبين الصفح والحزم.

أسر زعيم قريش هذا المعروف النبوي؛ واللين في مواقف القوة والتملك أشد وقعا على النفوس من السيف، والأخلاق النبوية أصابت سويداء قلب هذا الزعيم القرشي بعد حرب ومناهضة للإسلام زادت على عشرين عاما.

ولم تتوقف الدروس النبوية في فتح مكة في حق أبي سفيان عند هذا الحد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلسه في مكان يرى فيه جيش المسلمين القوي وهو يمر بقواته الكثيفة أمام عينيه، حتى يزيل جميع رواسب الكفر من نفسه، وحتى يقوم أبو سفيان قائما -دون أن يشعر- بحرب نفسية لصالح المسلمين وسط قريش، تخيفهم من قوة المسلمين، وتحول كلماته عن وصف هذا الجيش الكثيف دون أي محاولة قرشية للمقاومة. وتقول روايات السيرة: إن أبا سفيان لما رأى ذلك المشهد انطلق إلى قومه وصرخ فيهم بأعلى صوته: “يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن”.


دخول المسلمين لمكة :

تفرق القرشيون ولزم كثير منهم دورهم، أما الباقون فلجئوا إلى المسجد، وبذلك نجحت خطة المسلمين في تحطيم مقاومة قريش، وخلق استعداد عند أهل مكة ليطبق عليهم المسلمون ما يعرف في عصرنا الحالي “حظر التجول”، وهو ما يمهد للسيطرة التامة دون مقاومة على مكة.

لقد سبق فتح مكة ودخول النبي صلى الله عليه وسلم إليها حرب نفسية مركزة ومتعددة الأدوات، ومنها:
– أنه أمر كل جندي في الجيش أن يوقد نارا ضخمة، فأوقد من النار عشرة آلاف حول مكة طوال الليل وهو ما أدخل الرعب في قلوبهم، وشتت أي عزيمة في المقاومة وحرمتهم النوم بالليل خوفا من المداهمة، فأضعفت استعدادهم لمواجهة المسلمين في الصباح.

– أنه فتح باب الرحمة والعفو لقريش قبل أن يبدأ في دخولها مستحضرا في ذلك عظمة البيت الحرام، فإذا فعل المنتصر ذلك فإن المقاومة تنهار.. تروي كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن “سعد بن عبادة” وهو أحد قادة الجيش قال: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحرمة”، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعزل من قيادة الفيلق ويتولى ابنه “قيس بن سعد”.

– كانت خطة المسلمين أن يدخلوا مكة من جهاتها الأربع في وقت واحد، وهو ما يشتت أي احتمالات لمقاومة مكية، ويهدم معنويات الخصم ويدخل اليأس إلى نفسه من جدوى المقاومة التي تعد انتحارا لا طائل من ورائه.

اذهبوا فأنتم الطلقاء: 


نجحت الخطة الإستراتيجية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول مكة في عدم تعرض جيش المسلمين لمقاومة تذكر، وأسلم غالبية زعاماتهم.. لكن هذا الانتصار العظيم زاد النبي صلى الله عليه وسلم تواضعا، فدخل مكة وهو يركب ناقته، ويقرأ سورة الفتح، وكان يطأطئ رأسه حتى لتكاد تمس رحله شكرا لربه تعالى، ولما جاء على باب الكعبة قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده”.

وعقب دخوله صلى الله عليه وسلم مكة أعلن العفو العام بمقولته الشهيرة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء“، ولم يمنع هذا العفو العام من إهداره لدماء بضعة عشر رجلا أمر بقتلهم حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة، لكونهم “مجرمي حرب”، وكان الوجه الآخر لهذا الأمر أن تبقى هذه الرؤوس التي من الممكن أن تكون نواة لنمو مقاومة ضد المسلمين في حالة خوف وحذر على أنفسها تمنعها من التحرك وتفرض عليها التخفي، وكانت روعة الإسلام أن غالبية هؤلاء أسلموا وحسن إسلامهم، وقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا ركن الإسلام .. أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد

أنا ركن الإسلام .. أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد مخاطبا الروم قبل معركة اليرموك خالد بن الوليد هو القائد الفذّ الذي خُلِّد اسمه كأفضل القادة العسكريين في التاريخ خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وُلد في مكة سنة 30 قبل الهجرة، وكان يُكنى بأبي سليمان، وكان والده الوليد بن مغيرة أحد سادات قريش، ذوي المال والنفوذ والمكانة الاجتماعية والنسب الرفيع، وقد نشأ خالدٌ في بيت عزٍّ وترفٍ، وتعلَّم الفروسية وأساليب القتال منذ نعومة أظفاره وأظهر فيها براعةً عاليةً وذكاءً فريدًا وفِكرًا متميزًا عن أقرانه كافة حتى عُرف عنه بمقدرته على القتال في سيفين بكلتا يديه في آنٍ واحدٍ مما جعله فارسًا فرسان قريش، وفي هذا المقال سيتم التعرف على قصة إسلام خالد بن الوليد. خالد بن الوليد قبل الإسلام عندما بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الدِّين الحق اختار خالدٌ البقاء على الشِّرك وعلى عبادة الأصنام والأوثان والدفاع عن قريشٍ في وجه الدِّين الجديد وأصحابه، لكنه لم يشهد غزوة بدرٍ وهزيمة قريشِ  فيها، وفي غزوة أُحدٍ كان ع...

لماذا تباع اللوحات الفنية بأسعار غالية جدا

لماذا تباع اللوحات الفنية بأسعار غالية جدا  لماذا تباع اللوحات بأسعار خيالية هل لأن الفن الموجود فيها يستحق كل هذه المبالغ !! طبعا غير منطقي لأن تحديد قيمة الفن الموجود في لوحة ما يختلف من شخص لأخر ثم انه لايوجد مقياس محدد لقياس قيمة اللوحة الفنية ، اي انها لاتقاس بالغرام كما هو الذهب ، ولا تقاس بالحجم فقد تجد الكثير من اللوحات رسمت من قبل فنانين عاديين أجمل وتحتوي على قيمة اكبر بكثير من لوحات بيعت بملايين الدولارات . فمثلا تم  لوحة الصرخة للفنان " ادفارت مونك " بلغ ثمنها 123 مليون دولار . ولوحة الصبي والغليون للرسام العالمي " بابلو بيكاسو " 130 مليون دولار . ولوحة امرأة للرسام " ويليام دي كونينج " 161 مليون دولار . ورقم 1938 للرسام " جاكسون بوللوك " 164 مليون دولار . لكن لماذا بيعت تلك اللوحات بمثل هذه الأسعار المريخيّة!؟ هذا سؤال صعب في الحقيقة، وهو من الأسئلة التي بقيت عالقةً في ذهني وتبحث عن حل هنا وهناك، واعتقد أنني وجدت عدداً من الأسباب التي تجعل من تلك اللوحات الفنية أغلى من منزلٍ في أفخم ...

خديجة بنت خويلد

خديجة بنت خويلد   نسب السيدة خديجة  هي خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وخويلد هو جد الزبير بن العوام الله عز وجل شرع الزواج عموما ، والنكاح بإطلاق بمعنى انه من اعظم السنن وأجل المباحات . كان في مكة امرأة صاحبة نسب شريفة فاضلة ، اسمها خديجة بنت خويلد خديجة بنت خويلد كانت قد تزوجت مرتان مات الاول عنها ثم تزوجت الثاني ثم مات ايضا كانت السيدة خديجة صاحبة مال كثير ،  ترسل أموالها على أيدي التجار إلى البلاد للبيع والشراء وفي تلك الفترة سألت غلام لها اسمه ميسرة : من تعرف للذهاب بالملل للبيع والشراء ؟ أشار عليها بمحمد عليه الصلاة والسلام فأرسلته إلى رسول الله يستشيره في الذهاب بمال خديجة للتجارة في الشام . فقبل رسول الله بعرضها على أن تكون له نسبة في البيع والشراء ، وكانت قريش معروفة بالتجارة بين العرب وهم أهل تجارة كيف تزوج النبي صل الله عليه وسلم من خديجة  لما بعثت غلامها ميسرة مرافق لرسول الله صل ا...